بين حينٍ وحين، كان ينشب سجال مع معالي وزير الخارجية رئيس «التيار الوطني الحر»، في مجلس الوزراء حول قضايا تتعلق بطرحه السياسي للأمور.
الآن انقطع السجال بعدما تبوّأ هو رئاسة تياره وأصبح ذا أسهُم تفضيلية في شراكة الحكم، في حين انزويتُ أنا إلى تقاعدي، وقد ظننتُ نفسي سأرتاح في مقعد المراقبة الوثير الذي أشرفُ منه على جزر ميناء طرابلس التي أدمنتُها إلى حدّ اعتبارها بعضاً من ملفات مكتب المحاماة الذي أتولّاه.
ولكنّ الزميل السابق، العزيز، (ولا أقول الزميل العزيز السابق) لئلّا يلتبس الأمر على المستمعين، ويستغلّه المغرضون ويعتبرون أنّ السابق تعود إلى العزيز وليس إلى الزمالة، أقول إنّ معالي الرئيس - رئيس التيار الوطني الحر طبعاً- أقلقَ تقاعدي ومقعدي عندما أعلن بعد اجتماع التكتل أنّه يحق للمواطنين العودة إلى الشارع إذا منَعت عنهم السلطة الانتخابات عبر التمديد.
أصدقكم القول أنّ كلمة الشارع أصبحت تشكّل لي قلقاً كلّما صدرت عن صوت غاضب، علماً أنّ للكلمة معنى نبيلاً، يبدأ بالجلالة، لأنه الشارع الرباني ولا ينتهي بالسلطات التي تسنُّ الشِّرعة، كما أنّ من معانيه الطريق الأعظم الذي يشرَع فيه الناس عامّة، وهو على هذا المعنى ذو شرع من الخلق يشرَعون فيه.
ولهذا تملَّكتني رغبة في استعادة السجال، ولو من طرفٍ واحد، لأنّ الأغلب عندي أنّ كلمتي لن تصل إلى مسمعه، لأقول إن ما كان يراه «التيار الوطني الحر»، ورئيسه، مباحاً قبل انتخاب فخامة الرئيس ميشال عون، هو الآن غير وارد في سياق التفاهمات الكبرى التي أبرمتها الأطراف المعنية، إلّا إذا كانت هذه الأطراف تقصد من وراء انتخاب الرئيس وتشكيل الحكومة، تغييراً في ديكور خشبة المسرح فقط ليعود التجاذب إلى ما كابَدناه في الحكومة السابقة، ويعود التعطيل، وترتفع لغة النفايات فوق لغة التفاهمات كأنّما كتِب على هذا البلد أن يهدروا له الفرَص تلو الأخرى، وقد اعتبرتُ أنا عن حق، أنّ حكومة الرئيس الحريري هي حكومة الفرصة، التي يجب أن نستغلّها.
أنا واثق من أنّ الرئيس جبران باسيل يعلم تمام العلم أنّ النقد مفعم بالود، وأنّني لا أقول قولي هذا، دفاعاً عن حزب أو جهة، أو هجوماً على أيّ أحد آخر، بل ما أقصد إيصاله هو الامتناع عن الإسراف في تغيير معاني الكلمات إلى ما يخالف جوهرَها، أو إلى ما يناقضه غالباً، وفي هذا أضرب بعض الأمثال:
- حقوق المسيحيين، لا تفسّر امتيازاً للأخوة المسيحيين، بقدر ما تعني الحفاظ على المعادلة التي قام عليها الكيان اللبناني، بمعنى أنّه إذا انتُهكت حقوق المسيحيين فإنّ وجود المسلمين في وطنهم يصبح مهدّداً. وفي هذا أيضاً يجب الإقلاع عن استعمال تعبير (كلّ من يريد التفاهم مع مسيحيّي الشرق عليه أن يتفاهم معنا أوّلاً) لأنه يستفزّ مسيحيّي الشرق قبل مسلميه.
- العيش المشترك يعني شراكةً في تدعيم الدولة والمجتمع والتنمية لكي يتمكّن الوطن الصغير من امتلاك دور كبير على الصعيدين القومي والإنساني، خلافاً لِما آلَ إليه المعنى في أدبيات السياسة اللبنانية، وكأنه تمترسَ في متحدات تقوم على الصفاء الديني والمذهبي، أو مقايضة بين تجّار متعادين.
- الشارع، هو التشريع والشرعة والشرعية، والطريق الآمن، بعكس ما جرى استعماله، طرقاً مقطوعة وأرصفة مقتلعة، وصراخاً وعدسات وغضباً موسمياً أكثر ضرراً من الرياح الموسمية.
هذا المعنى يناقض الكلمة أصلاً وفصلاً، نصّاً وفصّاً، ويشير إلى أننا لم نعتبر بما رأيناه عندما أفسدت المعاني النبيلة، لخروج الناس، فجرى تدمير الرغبة في التغيير والخلاص من الظلم لمصلحة حالة متوحّشة لن تزول آثارها من النفوس على مدى عقود طويلة.
إنّني أدعو في هذه الكلمة الذين تمكّنوا من عبور الحواجز الخطيرة، واجتياز الأودية السحيقة، ومدّ الجسور بين ذرى الجبال المتباعدة، أن يتّفقوا على انتخابات نيابية تقوم على قواعد واقعية، وإلّا فإنني مضطرّ للتذكير بأنّ الحكم جدارة... وأنّه حتى ترامب، سيتغيّر إلى لغة أخرى غير التي توسّلها للرئاسة عندما يتوغّل في مهمّته.
جولة الرئيس ميشال عون العربية الناجحة لا ينبغي لنا أن نُفسدها بإفساد الشوارع مرّة أخرى، لأنّ الإخوة العرب الذين دعاهم فخامته إلى العودة، يفضّلون الشوارع الآمنة بمعناها الوارد في معاجم اللغة، وقواميس المصالح والعقل.
ختاماً، أشير إلى أنّ السجال المحتدم حول الاستحقاق النيابي، المستمر في هذا المنحى التصعيدي العقيم الذي لن يفضي إلّا إلى الفراغ، لا بدّ أن يتوقّف بإشارة من الفخامة التي ستدعو الأطراف إلى كلمة سواء، علماً أنّ مَن استطاع تأمينَ شبهِ إجماع لانتخاب الرئيس، يستطيع تأمينَ أحكامِ الدستور من غير حاجة إلى الحلول الهجينة.